دراسة عن رواية شهد الغواية بعنوان شهد الغواية للدكتور موسى نجيب موسى وثنائية الحب والجنس بقلم الدكتور/ شعبان عبد الحكيم محمد


 

شهد الغواية رواية قصيرة للدكتور موسى نجيب يعرى فيها الذات الإنسانية ، التى لا ترتقى إلى مستوى الأنبياء والقديسين ، ولا تنحط مكانتها إلى مرتبة الشياطين ، فالإنسان إنسان يجتمع فيه الخير والشر ، الفضيلة والرذيلة ، السمو والسقوط ، هذه القيم نستشفها استشفافا من خلال علاقة بطل الرواية بامرأتين ( وحيدة ، وصديقتها السمراء ) ولعل أول ما يثير الانتباه حداثية الرواية ، فلا تخضع الرواية فى تكنيكها الفنى لآليات السرد التقليدية ، أحداث تتوالى ، وعقد ، وحل فى النهاية ، من خلال مجموعة من الشخصيات ، ذات ملامح بارزة ، فالرواية لا تحكى قصة ، بمقدار ما تسرد حدثا ، فى صورته الفنية التى يتجاور فيها الحقيقة بالخيال ، الواقع بالمثال ، تبدأ الرواية وتنتهى بوصف علاقة البطل بوحيدة ( وأظن هذا الاسم أطلق البطل على حبيبته لتكون متفردة وسط النساء) وتنتهى بوصف هذه العلاقة ، فى حركتها الزئبقية صعودا وهبوطا ، فلا تخضع الأحداث للتراتب المعتاد ، بل تتداخل الأزمنة ، ويتجاور السرد عن الحاضر والماضى فى ضفيرة واحدة .

علاقة البطل بامرأتين ، واحدة تمثل الجانب السامى ، حيث العفة والطهر ، فى علاقتها بوحيدة ، وعلاقة ثانية فيها إشباع لرغبته ، وشهوته العارمة ، وكأن الكاتب يقول لنا ، الإنسان يعيش حياته فى شقيها المادى والروحى .

رغم أن علاقة البطل بوحيدة تتلخص فى مواقف معدودة ، خلال مقابلتها فى معمل العلوم ،أو فى إحدى زوايا المدرسة ، لقاءات عابرة ،غير أن الكاتب نفخ فيها ، وجعل منها قصة طويلة ،  من خلال معاناة البطل وأحزانه ، شوقا وعشقا وتوحدا بالمحبوبة ، معريا مشاعره وحبه الدفين ، وحبها التى دارته كثيرا ، لتعيش حياتها التى ارتضاها المجتمع فى قوانينه المشروعة ، تحت مظلة الزواج .

ورغم أن العمل الفنى عمل تخيلى ، غير أن الكاتب يكرر علينا تحيره من البداية ، أحقيقة أحداث قصته أم خيال ؟! ليستساءل قائلا : هل هى تحبه ، وكذلك زميلتهما السمراء التي أحبته هي الأخرى، ووهبت له قلبها وجسدها البرونزى معاً؟  أم أنّ الأمر برمّته من وحي خياله، ونبت من إنبات أحلامه المزعجة، التي ظلت تهاجمه منذ آخر يوم ودعها فيه الوداع الأخير؟

ويتساءل مرة أخرى "  خيال هي أم واقع مرئي محسوس ملموس، يستطيع أن يتبادل معه حواراً بحوار، وحديثاً بحديث، وكلمة بكلمة، وحرفاً بحرف، دون أن تفسد عليه نزعته للخيال، والعيش معه وفق ما يرى هو فقط، وما يتمنى هو فقط أيضا؟ "

يحيرنى الكاتب ، وليته استمر فى سرده الدافق دون تساؤلات ، ودون أن يتلجج فى أمر حب وحيدة للبطل ، فالراوى يروى لنا ذكرياته مع وحيدة ، وأنها أقامت لهم وليمة ، ولبت طلبه بإعداد المكرونة بالباشميل والبوفتيك ، مما عمل على ترسخ شعوره بحب وحيدة له ،لأنه كان طلبه عندما عرضت عليهم وحيدة إقامة وليمة لزملائها فى المدرسة ،فاختار البطل هذين النوعين النوعين من المأكولات التى يحبها ، وكان آخر لقاء بينهما فى المدرسة  ، حيث أعطاها شريط كاست به أغنيتان لعبد الحليم حافظ ، (أغنية أي دمعة حزن لا -  وأغنية خسارة خسارة). الأولى يطلب منها عدم البكاء على أى أمر فى الحياة مهما كان ، والثانى يعبر به عن نفسه ، وحبه لها خسارة ضياعه ، ويروى لنا محاولته إعطائها صورة شخصية له ، فرفضت ، ولكنها وافقت أن يأخذ صورة لها مع مدرستها الأولى، و كانت صديقتها السمراء هى الوسيط بينهما ، ولأنها أنثى كانت تؤكد له بإحساسها كأنثى أن وحيدة تحبه ، ,ولكنها لم تقلها صراحة سوى كلمات من خيال البطل ، الذى يمنى نفسه بهذا الحب ، كقوله على لسانها ( توهما )

 - ذنبي فى رقبتك لأنني أحببتك، ومازلت أحبك، وسوف أظل أحبك إلى الأبد.

كان حلما للبطل أن يجد اهتماما من هذه الأنثى ( المخطوبة ) من خلال نظرات إعجاب ، ولقاءات عابرة مع وجود صديقتها السمراء ، التى اقتنصت فرصة تأزم البطل ، لتعيش معه لحظات جنسية دافئة ، تعويضا لشوق عارم ، اتجاه البطل لمحبوبته ، ليعيش معها شهد الغواية والضلال .

شهد الغواية شهد ظاهره حلو ، وفى أعماقه المرارة للخطيئة التى لا يمكن لأى إنسان ألا يقع فيها ، والكاتب يعى ذلك وقرأ وحفظ الآية ( من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر ) هذه الآية يوظفها فى لحمة بنائه الفنى ، فالبطل يسحب شعوره الناقم اتجاه محبوبته ، التى كان يراها ملاكا ، ولكن لا يستبعد أن تكون قد سقطت فى شهد الغواية ذات يوم ، وهو ما تخيله الكاتب فى  بكارة حياتها الجنسية ، مع عشيق جارها مارس معها الجنس بشراهة ، وتركها بعد ذلك لينفذ أوامر عائلته فى اختيار امرأة أخرى لحياته الزوجية ،غير مكترث بقلب وهب حياته له ، وفى الوقت نفسه يفقد البطل صوابه ، بعد هجران محبوبته ( وحيدة ) ليمارس الجنس ،  وبشراهة مع صديقتها السمراء ، ونلاحظ أن الكاتب يمتلك جرأة عالية فى حديثه عن الجنس ، نذكر منها حديثه عن ممارسة وحيدة فى مستهل حياتها مع ابن الجيران ، كقوله على لسان وحيدة  "  التهم فمي بنهم غريب، وأخذت يده تعبث بصدري النافر بلا رحمة، حتى انهرت تماماً، ولم أجد أية مقاومة داخلي أستطيع بها أن أوقف أمواج رغبته الهادرة ، ولم أستطع حتى أن أوقف يده التي زحفت بمهارة المتخصص، وفتح بها سوسته" الأستريتش"  ، وقولها  " حاولت أن أنقذ ما يمكن إنقاذه، بأن أعطيه ظهري حتى يكون إيلاجه لي من الخلف حتى لا افتضح ، فأنا أتمنى أن أُسلم عذريتي لمن سوف يثق بى ويتزوجني، ولكن صورة زفافه كانت في مواجهتي تماماً، وكنت لا أطيق أن أنظر إلى وجه زوجته الوديعة، وكنت أشعر بأن الصورة سوف تهوي على رأسي، أو أنها سوف تنتزع منى هذه اللحظات التي سرقتها من زوجته، فأعود مسرعة مرة أخرى لكي أكون في مواجهته، وأجدني ألقي بكل جسدي في حضنه، واحتضنه بقوة عجيبة حتى لا يفر من بين يدي ... "

شخصيات الراواية شخصيات مريضة وغير سوية ، ورغم وعى البطل الذى يحمل كثيرا من صفات الكاتب ، منها أنه معلم ، وحاصل على الدكتوراه فى علم النفس، ومتزوج وله ولدان ( فى بداية أحداث الرواية كان ولد ) لا نجد لهذا البطل موقفا ثابتا ، فنجده يذوب حبا فى وحيدة ،  ويتخليها تموت وجدا فيه ، سرعان ما ينقلب ، فيشك فى حب وحيدة له ، وفى الوقت نفسه يظهر جنون وحيدة بحبه ، ووحيدة ـــــــــــ أيضا ـــــــ متناقضة فى حبها ، فى عشقها لابن الجيران ، ثم قبولها على مضض زوجها ( الطبيب الصيدلى ) رغم الفارق الاجتماعى بين الشخصين ، وشهادة الراوى بحسن أخلاق هذا الطبيب ، فنراها تقول :

ــــــــــــ رغم زوجي الحنون وابنتي الجميلة وأهل زوجي الذين يحبونني أكثر من ابنتهم، إلا أنني مازلت أشعر بنفس الوحدة، وليس كذلك فقط، بل أشعر بها وبقسوتها أكثر من أى وقت مضى ...

و رغم حب وحيدة للبطل بجنون ، ولم  تستطيع أن تخفى هذا فى نظراتها ، ونراها تقول عنه :  

 - حبه برص... أنا لو قابلته في الشارع كنت أضربه بالجزمة على رأسه... يا خسارة، كنت اعتبره مثل أخي، لا أخي إيه، أخي عنده كرامة أكتر منه....إلخ .

ورغم تعبيرها عن مدى سيطرة حب البطل على قلبها ، نراها فى أحد المواقف آخر يطلب منها أن ترقص له وأمام الناس ،ولكن سرعان ما تتغير فتقول : ماذا يريد هو مني؟ ... نعم ماذا يريد هو مني؟ ماذا يريد .... ماذا يريد .. ماذا يريد؟؟؟؟؟

وهذا يتناقض مع تعبيره عن حبه لها ، وعدم فكاكها من أسر هذا الحب ، فكما يروى على لسانها التقط دبوسا "ووخزني بشدة حتى انفجر الدم من يدي، ثم بعد ذلك وخز نفسه أيضاً، ووضع إبهامي الملطخ بدمي ، على إبهامه الملطخ بدمائه، وأخذ يدعكهما بشدة حتى اختلاط دمائنا معاً، وبعد ذلك أخذ يلعق إبهامي بنهم غريب وقال:  إنني بذلك تزوجتك، ودماؤك الآن تجرى في عروقي، فلن تستطيعي أن ترحلي عن ..... كل هذا، وأنا مكتوفة الأيدي قليلة الحيلة، لا أعرف ماذا أفعل لأوقف جريان طوفانه نحوي؟

وصديقة وحيدة التى كانت همزة الوصل بينهما ، تحبه وتذوب عشقا فيه ، بل تعطيه جسدها شهيا يتمتع فيه كما يشاء ، ولكننا نراه متناقضا فى فكره ومشاعره اتجاهها ،إذ يقول :  ماذا تريد هذه الأنثى/ الأفعى بالتحديد؟

كان أحرى بالكاتب أن يجعل البطل يعيش لذاذات الحب مع امرأة تحبه ،وتعجب به ، مع ثورة داخلية عاصفة حيث مشاعره نحو زوجته التى أظهرها فى صورة ملاك طاهر فى نهاية القصة ، ليصور لنا صراعا نفسيا عنيفا يثرى النص الأدبى ، وكان أولى به ـــ أيضا ـــ أن يجعل وحيدة  تعيش متحيرة بين شعورين متضادين : عاطفتها اتجاه حبيبها ، وولائها لحب زوجها ، ولكن الكاتباتى بثصرفات متناقضة لشخصيات تفتقد الاستواء النفسى  ، وصل به الحال أن يجعل وحيدة تقبل زوجا محترما ، مؤدبا ويعمل طبيبا ، تقبل هذا الزوج إرضاء لرغبة الأهل ليس إلا ، وتظل تحلم بحبيبها الأول الذى تركها دون أى مشاعر اتجاهها ، اللهم إلا استجابة لأوامر الأسرة بالارتباط المشروع ، رغم ذكرياتها الصبيانية مع ابن الجيران ، فهى تكن له شعورا يفوق شعورها لزوجها الطبيب المحترم ، ولو أن الكاتب جعل وحيدة  تؤثر حبها للبطل ، وتتردد فى قبول الزواج لأثرى هذا الصراع من فنية القصة .

كان رشاد رشدى واضحا فى تفسيره للجنس والحب ، ففى مسرحية الفراشة ربط بين الحب والجنس ، فجعل الحب جنسا ، ولكنه فى ورقة سولفان ، والسؤال الذى يطرح نفسه أليس الجنس ممارسة للحب كما يرى الغربيون ؟! أليست العلاقة الجنسية هى الناتج الطبيعى من الحب ؟ ، وأن أية قصة حب تفتقد هذا الإطار أو تتجاهله ضرب من العبث ؟! أليس الجنس موطنا للعلاقة بين الرجل والمرأة فى الحياة ؟! وفشل هذه العلاقة يمكن أن يهدم كيان أسرة ، هذه ما فات على الكاتب معالجته ، فلم يجعل للعلاقة الجنسية بين وحيدة وزوجها دورا فى قبول زوجها، ورضائها عنه ،تقول:

ـــــــــ فمشاعري نحوه لا أعرف لها لوناً أو طعماً أو رائحة، وإحساسي مات مع موت حبي الأول،

 بل تظل تتذكر ذكريات انحرافها مع رجل لا يضاهى زوجها مكانة ولا علما ، تتذكر هذه الذكريات بشغف ولذة لا نجد لهجة الحب والاحترام لزوجها الطبيب ، وعلى الرغم من سمو عاطفة البطل نجده شبقا مسعورا جنسيا ، يأكل فى جسد صديقة وحيدة ، هذه الرؤية الجنسية جعلته يتحدث بتبجح عن الجنس ، وجعله يستولى على أحداث الرواية ، فالبطل منذ كان صغيرا كانت تعجب به مدرسة العلوم ، وكانت تتأخر عمدا يوم الخميس لآخر اليوم الدراسى ، وتنفرد به ، كانت تلقي بجسدها البض عليه، وتقبله بنهم غريب لم يستطع عقله الصغير وقتها فهم ما يحدث له، وكانت بمهارة ودربة عجيبة تجر بسهولة (سوسته) بنطاله الجينز، وتعبث فيما هو موجود خلفها، وسط ضحكاتها الصاخبة ، التي كانت تكاد تهز جدران الفصل ، ويدها المتمرسة تعبث بعضوه ، وما إن رآهم العامل ذات مرة حتى اشتاق لممارسة هذا الطفل الجنس معه ، وكان هذا العامل كما يقول البطل راويا عن نفسه " يغريني بباكو البسكويت الذي أحبه كثيراً، حتى أترك له سوسته بنطالي مفتوحة، فأجده يجثو على ركبتيه ويتناول عضوي بكل رفق، وعندما يهم بوضعه داخل فمه ذي الشفاه الغليظة، كنت أقوم مفزوعاً، وأنتزع من يده عصا المكنسة التي كانت تعينه في مبرراته لضرورة تنظيف الفصول، وأهوي بها على  جسده النحيل، وأضربه ضرباً مبرحاً بلا رحمة أو هوادة، حتى كادت الدماء تسيل منه بغزارة. 

لست أدرى كيف كانت مدرسة العلوم تمارس الجنس مع طفل غرير ، لم يبلغ الحلم ، ولا يعرف معنى الجنس ، وكذلك العامل ، إن هذا الشعور يجىء امتدادا لهوس البطل بالجنس ، فى صورة مرضية ، ونقف على مقتبسات طويلة للتدليل على رؤيتنا ، يقول "  ما زال شبقي يؤرقني، ولعابي يسيل وفراشي يهجرني، كلما أطلت عيني على نهد نافر، أو فخذين تعريتا دون قصد من صاحبتهما، أو حتى عندما تقع عيني على كعب قدم امرأة بيضاء لا تطيق ارتداء الجورب..." 

ويقول " أرى فيما يرى النائم أنني أسير في طريق طويل .... طويل أرضيّته خضراء طبيعية، ومحاط بسياج من الذهب الخالص، وبه أعمدة إنارة من المرمر، منتهية بلمبات من الماس النقي، تضاء وتنطفئ في وميض خاطف متكرر ... ومحاط من حوله في جميع الجهات مساحات كبيرة مكسوة بالأزرق السماوي ..."

ويقول "  تظهر الأنثى بكامل هيئتها أمامي فجأة... عارية تماماً ... نظيفة في كل جزء من جسدها تماماً ... شفافة تماماً، حتى أنني أكاد أري أحشاءَها الداخلية، وقطعتين من الماس النقي يستران الثديين، وقطعة وحيدة وصغيرة تستر ما بين الفخذين..."

ويقول "  تختفي صاحبة الجسد المرمري التي كانت تطاردني منذ قليل، وأعود للسير في طريقي الأخضر مرة أخرى ... تزداد خطواتي أكثر وأكثر، حتى أصير أعدو ويزداد عدوي أكثر فأكثر، ويزداد لهاثي الذي كاد  يحبس الأنفاس في صدري الجاثمة عليه صخرة ثقيلة لا تريد أن تبرحه مطلقاً ... ذلك اللهث الذي لم يوقفه، سوى وصول وشوشات إلى أذني لصوت أنثوي أعرفه وأعرفها  تماماً، كلما جريت أكثر اقترب الصوت رغم عدوي عكس اتجاهه ... يعلو الصوت أكثر  فأكثر، حتى يكاد يخترق أذني اختراقا ..."

لم ينجح الكاتب فى تفجير صراعات نفسية مزلزلة سواء للبطل ، أو لوحيدة التى تشاركه البطولة رغم قوله "  إنها الأنثى بكل تجلياتها وبكل تقلباتها، وبكل شموخها وألغازها التي حيرت غيره من الكثيرين، والتي دهستهم دوامتها التي لا ينتهي دورانها، فلماذا لا تحيره هو أيضاً، وتدهسه دوامتها؟

وقد غلب هاجس الجنس عليه ، ففسر كل العلاقات بين الرجل والمرأة ــــ كما رأى فرويد ــ فى دافع الجنس  ، وو صل هذا الهوس أن ابن الجيران الذى أحبته وحيدة ذات يوم ، مارس معها الجنس بطل الطرق ، لدرجة أنه " حاول أن يفهمها أن مقاس بروزه الذكري يطابق تماماً مقاس تجويفها الأنثوي" والبطل الذى يحب وحيدة حبا ساميا ، لا يتورع أن يلتقى بصاحبتها فى لقاءات داعرة ، ليقول على لسانها " وقّعت بكامل إرادتي على صك تنازل مني كي يملك جسدي...لم أكن أعلم أنني ... سلمت له مفاتيح  أنوثتي... لم اكن اعلم حتى عندما قلت له أحبك، وكانت تعلو هامتي صورة زفافه على من أحبها أكثر مني ومن "وحيدة" نفسها، أنني سلمت له بكارة عواطفي ووهج وجداني الطفولي "

ولكن رغم ذلك كله فالرواية ذات تقنيات حداثية ، وقد أخذ الكاتب بآليات السرد الحديثة ، سواء فى البناء الفنى ، أو فى السرد على لسان الشخصيات ،أو فى بنائه للزمان والمكان ، فالسرد لا يخضع للتراتب والتوالى للأحداث ، فيبدأ الرواية باستباق قبلى ، الرواية تبدأ نهاية العام الدراسى فى شهر مايو ،وعمل وحيدة وليمة لزملائها فى المدرسة ، وعندها يرجع الكاتب إلى ما قبل الأحداث ، واحتكاكه بوحيدة ، فى نظراته إليها ، وسلامه ، ورد السلام عليه ، ومحاولة أخذ صورة منها ،وأخيرا وافقت على على إعطائه صورة مصورة مع مدرستها الولى ، ثم يرجع إلى الحظة الآنية ، وينفرد بها فى المعمل البعيد عن بناء المدرسة ،  يعطيها شريط كاسيت عليه أغنيتان :أى كلمة حزن لا ، ويا خسارة ) وبعد ها يرتد إلى الماضى بذكر بعض اللقاءات معها فى المدرسة ، بواسطة صديقتها السمراء ، التى ارتوى منها جنسيا فى نهاية الرواية ، وبعدها يرجع للوقت الحالى ، فتقول له وحيدة : فنحن في أغسطس وزفافي حُدد له يوم الثاني عشر من سبتمبر، وبعدها يرتد للخلف لنرى علاقة وحيدة الداعة مع ابن الجيران ، وبعدها يحدث حذف ، ليقول على لسانها : مرت الأيام ومعها السنوات ورغم عدم معاودتي للعمل، أو للذهاب إلى المدرسة مرة أخرى، وانشغالي بحياتي وبابنتي الجميلة التي أنجبتها بعد آخر مرة رأيته فيها، إلا أنني وجدته يسطو على مشاعري وعلى حياتي وعلى قلبي الذي لم أعد أمتلك فيه أي جزء ، ومن الاستباق البعدى نعرف من الراوى زواج وحيدة وإنجابها طفلة ، وإنجاب البطل لطفلها الثانى ... وتنتهى العلاقة وصديقة وحيدة السمراء فى أحصانه  ، وهوس البطل بالجنس ، الذى سقط فيه البطل ومحبوبته وحيدة فى بداية شبابها مع ابن الجيران ، وصديقة وحيدة السمراء ، الهم إلا زوجته التى جاءت امرأة طاهرة عفيفة، يقول :

أرى على البعد زوجتي قادمة من بعيد، بعد أن عم الظلام المكان بأكمله، ولا توجد أية بقعة مضيئة في المكان بأسره، سوى دائرة صغيرة جداً تحيط بزوجتي، تسير معها كلما سارت ...وجهها لامع يبرق بوميض نوراني شفاف ... ورغم أن صديقه رفيق قد أنباه بقصة حبه مع وحيدة (امرأة غنية تحبك ) ويومها خاف من الخطيئة ، فتوجه لأقرب مسجد فى القرية ليجد فيه السكينة والأمان ، والبعد عن الخطيئة ، ولكن البطل ترك نفسه للغواية وكان شهدها مرا .

هكذا نجد الكاتب حداثيا فى فكره ورؤيته للبناء الفنى الذى يقوم على الاستدعاء ، لا المنطق والتوالى للأحداث ، ولا يهمه رسم الشخصيات ، سماتها الخارجية بقدر ملامحها النفسية ،بل جعل بطلها و إحدى شخصيات الرواية البارزة ، بدون اسم ( صاحبة وحيدة )

وجاءت اللغة نقية شفيفة ، بعيدة عن الأخطاء اللغوية الفادحة التى نمجها عند كثيرين من الكتاب ، واتصفت بالتصويرية ، والتكثيف ،والإثارة ، منها قوله "  تخلص من جسدها الثقيل بخفة غير معهودة فيه، وحاول أن يفرك عينيه، وينشب ظفر بنصره الأيسر الذي ينال منه جل عنايته، حتى يجعله أطول ظفر في أصابع يديه في لحمه، عله يفيق من حلم طال عليه، أو كابوس جثم على صدره، أو حتى يشعر ولو مجرد شعور حقيقي بطبيعة المكان والزمان الذي جمعهما معاً في غفلة من وجودهما، لكنه لم يدْر بشيء، وما استطاع أن يفعل شيئاً حيالها وحيال أسئلتها الملغزة ...

ومن الأمثلة التى تدلل على درامية اللغة المشحونة بذبذبات النفس قوله "

 ــــــــ حقيقة هي أم سراب يداعبه في صحراء حياته القاحلة، والتي ازدادت جفافاً بعد أن ذرفت آخر دموع عليه، ورحلت إلى حيث لا  يعلم؟

ــــــ خيال هي أم واقع مرئي محسوس ملموس، يستطيع أن يتبادل معه حواراً بحوار، وحديثاً بحديث، وكلمة بكلمة، وحرفاً بحرف، دون أن تفسد عليه نزعته للخيال، والعيش معه وفق ما يرى هو فقط، وما يتمنى هو فقط أيضا؟

رواية شهد الغواية رواية جميلة مثيرة بتقنياتها ، وببعد الكاتب عن التقليد فى تقنياته السردية ، وبناء الأحداث بما يتوقعه المتلقى ، فالقارىء لا يستطيع توقع الأحداث ،لأنه بناء دائرى ، يختلط الماضى بالحاضر بالمستقبل ، فى صورة مترابطة جميلة ،وفى لغة أدبية نابضة بالخيال والجمال ،انظر إلى تصويره لموقف البطل ، حين دخل أقرب مسجد مرتبكا من وقوع الخطيئة " دخلت ولم أشأ أن أسمع تحذيرات الشيخ بضرورة خلع حذائي، لأن الأرض التي أقف عليها مقدسة، بل هرعت إلى القبلة وتمددت أمامها، حتى تراءت لي فصائل وكتائب كثيرة من الملائكة كانت تهل علىّ من كل صوب وحدب، وهي ترفرف فوق جسدي الممدد، وجاء  منها ملاكان حملاني إلى أعلى.. إلى أعلى حتى اصطدم جسدي ببطن القبة الوحيدة للمسجد من الداخل، فهوى جسدي بشدة، وعندما فتحت عينيّ وجدتني بملابس العرس، وهي بملابس زفافها الجميلة، ووجوه كثيرة أعرفها جيداً تملأ المكان....

 



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصة قصيرة بعنوان ( إحساسي مات ... مات ) للأديب الدكتور /موسى نجيب موسى

مسئولية طلبة الجامعة نحو البيئة بقلم أ.د/ راندا مصطفي الديب أستاذ تخصص أصول تربية الطفل بكلية التربية جامعة طنطا