مالئ الدنيا وشاغل الناس بقلم الشاعرة / زينب عبد الباقي
في ظلّ المشاكل التي تعاني منها لغتنا العربيّة من هجر لقواعدها وإهمال في دراستها، جرت معي حادثة تستحقّ أن تُروى لتثبت للنّاس أنّ هذه اللّغة السّاحرة ما تزال بخير، وأنّ ما يصيبها ليس إلّا غيمة صيف ستمرّ ويعود لها مجدها الذي كان.
بدأت الحادثة بمنشور على صفحة أحد الأصدقاء الفيسبوكيّين يتضمن السّؤال التّالي :
للمتمكّنين في اللّغة العربيّة
إذا كان الفعل الماضي : رأى
والمضارع : يرى
فما هو الأمر منه؟؟
وتحت المنشور ردّ من شاعر يرى أنّ الجواب هو : رِ ( بكسر الرّاء )
نشرت السّؤال على صفحتي مع تعليق على ردّ الشّاعر (بعدما حذفت اسمه) أقول فيه : " ليس عيبًا أن لا تعرف، العيب أن لا تسأل "
و هنا قامت الدّنيا ولم تقعد في تعليقات أصحاب الرّأي والرّأي الآخر من محبّي اللّغة والمفكّرين والكتّاب واللّغويين . منهم من ترك تعليقًا صحيحًا .. ومنهم من دافع عن الشّاعر وقال إنّه على حقّ وآخر استوضح وطلب البيّنة .
في تلك اللّحظة كنت على يقين بأنّ الأمر من رأى هو : رَ ( بفتح الرّاء ) لأنّ القاعدة تقول: يُصاغ الأمر من المضارع بحذف حرف المضارعة من أوّله وبنائه على ما كان يجزم به في المضارع .
و التّطبيق على هذه القاعدة يكون كالتّالي :
يرى ... نحذف حرف المضارعة منه فيصبح رى .. ثم نبنيه على ما كان يُجزم به في المضارع وهو حذف حرف العلّة فيصبح : رَ ( مفتوحة ) .. أكرّر مفتوحة .
ولكنّ .. أصدقائي كان لهم رأي مختلف، ومنهم من تسلّح ببيت المتنبّي الشّهير الذي يقتصر على أفعال الأمر التّالية:
عشْ ابقَ اسمُ سدْ قدْ جدْ مرْ انهَ رِ فِ اسرِ نلْ
غظ ارمِ صبِ احمِ اغزُ اسبِ رُعْ زَعْ دِ لِ اثنِ نلْ
ووقعت الواقعة، المتنبّي بسموّ قدره يستخدم الفعل مكسورًا !! لا بدّ أنّ في الأمر سرًّا ..
كيف أتصرّف الآن ؟ هل أميل إلى قواعد اللّغة أم أكتفي برأي الشّاعر الذي كان ينام ملء جفونه عن شوارد اللّغة؟
لم تعد المعركة بيني وبين الأصدقاء، صارت بيني وبين مالئ الدّنيا وشاغل النّاس ، فهل أسمح لنفسي بالتّقصّي والبحث؟
وعلى الرّغم من أنّي متأكّدة من القاعدة إلا أنّي تريّثت ، لم أصمّم على رأيي إذ سمعت صوتًا في داخلي يقول:" اللّغة تؤخذ بالسّماع " ولا بدّ أنّ المتنبّي سمعه بهذا الشّكل في رحلاته إلى البوادي حيث يسكن العرب الأقحاح.. وهنا .. تركت الأمر ولم أفتِ ..
لكنّ الموضوع لم ينتهِ عند هذا الحدّ، إذ ظلّ الأمر يجول في خاطري، كيف يكون فعل الأمر منتهيًا بالرّاء المكسورة في فعل اختتم مضارعه بالألف المقصورة ؟
غصت في مراجع اللّغة من جديد، فإذا بي أصل إلى شرح لهذا البيت يقول :
هذا البيت قاله المتنبي لسيف الدّولة
عش ابق اسم سد قد جد مر أنه رِ فِ اسرِ نلْ :
عش: من العيش ،وابق: من البقاء ،واسمُ: من السّمو ،وسد: من السّيادة ،وقد: من قود الجيش، أي قد الجيوش إلى أعدائك ،وجد: من الجود ،ومر: من الأمر بالمعروف،وانه: من النهي عن المنكر ؛أي كن صاحب أمر ونهى ،ورِ: من الورى وهو داء في الجوف(هو قيح يأكل الجوف ويفسده) ،يريد أصب رئات أعدائك بأن توجعهم ،وفِ: من الوفاء ،واسر: بضم الرّاء من السّرو وهو المروءة في سخاء ،وبكسرها من السّرى وهو مشي الليل أي اسرِ إلى أعدائك،ونل: من النّيل ،يقول :أسر إلى أعداءك وأدرك منهم إرادتك
ولهذا قال
غظ ارمِ صبِ احمِ اغزُ اسبِ رُعْ زَعْ دِ لِ اثنِ نلْ :
أي غظ حسادك ،وارم ببأسك من يكيدك ويشنأك ،وصب من صبا السّهم الهدف يصيبه صيبًا لغة في أصاب: أي أصب أعدائك برميك ،واحم حوزتك ،واغز أعداءك ،واسب أولادهم ،ورع أعداءك أي أفزعهم ،وزع من وزعته أي كففته ؛أي كف بوقائعك مسلطهم ،ود من الدّيّة أي تحمّل الدّيّة عمّن تجب عليه ،ولِ من الولاية ،واثن أعداءك من مرادهم أي اصرفهم ،ونل من ناله ينوله إذا أعطاه ،وقيل النّيل أي نل ما تبتغيه بسعدك وإقبالك
قرأت الشّرح ثم توقّفت طويلًا أمام معنى رِ : التي قيل إنّها من الورى ( والفعل منه رأى أيضًا لكنّ مضارعه :"يري"، والمعنى هو : أصاب الرّئة . هنا شعرت أني اقتربت قليلًا من المراد لكنّي لم أقل شيئًا، فاللّغة بحر والسّباحة فيه بدون استعداد نتيجتها الغرق لا محالة .
خفت من المجاهرة برأيي لأنّ الخطأ سيجلب لي الكثير من اللّوم والعتب . ولكن كيف نصل إلى الحقيقة ؟ كلمة كهذه قد تحملني إلى أرق لا ينتهي. فأنا لا عدوّ لي إلّا ما أجهل . سوف تحرقني هذه الكلمة إن لم افهم ما سرّها.
وفي لحظات حيرتي اتّصلت بي صديقتي اللّغوية الأستاذة غريد الشّيخ وقبل أن تلقي التّحيّة قالت :
لا تبحثي كثيرًا، لقد جئتك بالخبر اليقين .
ضحكت بصوتٍ مسموع وأجبتها: كيف عرفتِ أنّي أبحث؟
قالت: هل تشكّين في ذكائي؟ أعلم أنّك لن تنامي الليلة إن لم تصلي إلى الجواب. في الحقيقة، تعلّمت في الجامعة أنّ الأمر من رأى هو "رِ" .. بكسر الرّاء ، فحفظتها ولم أناقش. لكنّي بعدما قرأت التّعليقات على صفحتك أمضيت الوقت وأنا أتتبّع الفعل رأى في المعاجم و المصادر حتّى وصلت إلى المراد
الأمر من رأى التي تعني نظر هو : رَ
وهذا هو تصريفها :
أنت رَ (بفتح الرّاء) ..... أنتما رَيا ..... أنتم رَوا .... أنتِ رَي ....... أنتنّ رَين
أما رِ (بكسرها) فهي الأمر للفعل رأى بمعنى أصابه في رئته ..
وهنا تنفّست الصّعداء وارتاح القلب والضّمير وركضت إلى المنشور من جديد لأكتب تعليقًا للأصدقاء أقول فيه : تتبّعوا الردّ المفصّل في مقالي القادم .ثمّ توجّهت إلى سريري لأنام ملء جفوني عن شواردها .. وأنا أشكر الله لأنّ الناس ما يزالون يهتمّون باللغة ويسهرون جرّاها و... يختصمون ..
للّه درّك أيّها المتنبّي .. ألف عام على رحيلك ومافتئ اسمك مالئ الدّنيا وشاغل النّاس. نم قرير العين ياصديقي، فنحن بإذن الله من السّاهرين.


تعليقات
إرسال تعليق
أهلا ومرحبا بكم زائرنا الكريم نتمنى ان يكون محتوى المجلة قد نال إعجابك نشكرك ونتمنى زيارتنا مرة أخرى
الأديب الدكتور
موسى نجيب موسى